فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في السورة الكريمة:

قال عليه الرحمة:
سورة القيامة:
قوله جل ذكره: (بسم الله الرحمن الرحيم).
{بسم الله} كلمة عزيزة من سمعها بشاهد العلم استبصر، ومن سمعها بشاهد المعرفة تحير
فالعلماء في سكون برهانه، والعارفون في دهش سلطانه، أولئك في نجوم علومهم، فأحوالهم صحو في صحو، وهؤلاء في شموس معارفهم: فأوقاتهم محو في محو... فشتان ما هما.
قوله جلّ ذكره: {لآَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ القِيَامَةِ}.
أي: أقسم بيوم القيامة.
{وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ}.
أي: أقسم بالنفس اللَّوَّامة، وهي النَّفْسُ التي تلوم صاحبها، وتعرِف نقصانَ حالِها.
ويقال: غداً... كلُّ نَفْسِ تلوم نَفْسَها: إمَّا على كُفْرِها، وإمَّا على تقصيرها- وعلى هذا فالقَسَمُ يكون بإضمار (الرَّب) أي: أقسم بربِّ النفس اللوامة. وليس للوم النَّفْسِ في القيامةِ خطرٌ- وإنْ حُمِلَ على الكُلِّ ولكنَّ الفائدة فيه بيان أنَّ كلِّ النفوس غداً- ستكون على هذه الجملة. وجوابُ القسَم قوله: {بَلَى}.
قوله جلّ ذكره: {أَيحسب الإنسان ألَّن نَّجْمَعَ عظامه}.
أيظن أنَّا لن نبعثَه بعد موته؟
{بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّىَ بَنَانَهُ}.
{قَادِرِينَ} نصب على الحال؛ أي بلى، نسوي بنانه في الوقت قادرين، ونقدر أي نجعل أصابع يديه ورجليه شيئاً واحداً كخُفِّ البعير وظلف الشاة.. فكيف لا نقدر على إعادته؟!
{بَل يريد الإنسان ليفجر أَمَامَهُ}.
يُقدّم الزّلّةَ ويؤخر التوبة. ويقول: سوف أتوب، ثم يموت ولا يتوب. ويقال: يعزم على ألا يستكثر من معاصيه في مستأنف وقته، وبهذا لا تَنْحَلُّ- في الوقت- عقدةُ الإصرار من قلبه، وبذلك لا تصحُّ توبتُه؛ لأن التوبة من شرطها العزم على ألا يعودَ إلى مثل ما عَمِلَ. فإذا كان استحلاءُ الزلّةِ في قلبه، ويفكر في الرجوع إلى مثلها- فلا تصح ندامتُه.
قوله جلّ ذكره: {يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ}.
على جهة الاستبعاد، فقال تعالى: {فَإِذَا برق الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يَقول الإنسان يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ}.
{برق} بكسر الراء معناها تحَيَّرَ، {وَبرق} بفتح الراء شَخَصَ (فلا يَطْرِف) من البريق، وذلك حين يُقَاد إِلى جهنم بسبعين ألف سلسلة، كل سلسلة بيد سبعين ألف مَلَك، لها زفير وشهيق، فلا يَبْقى مَلَكٌ ولا رسول إلاَّ وهو يقول: نفسي نفسي!
{وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} كأَنهما ثوران عقيران.
ويقال: يجمع بينهما في ألاَّ نورَ لهما.
{يَقول الإنسان يَوْمَئِذٍ أَيِنَ الْمَفَرُّ}؟ والمفرّ موضع الفرار إليه، فيقال لهم:
{كَلاَّ لاَ وزر}.
اليومَ، ولا مَهْربَ من قضاءِ الله.
{إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُ}.
أي: لا مَحِيدَ عن حُكْمِه.
{يُنَبَّؤُاْ الإنسان يَوْمَئِذٍ بِمَا قدّم وَأخّر}.
أي: يَعْرِف ما أسْلَفَه من ذنوب أحصاها اللَّهُ- وإن كان العبدُ نسيَها.
{بَلِ الإنسان على نفسه بصِيرة وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ}.
للإِنسان على نفسه دليل علامة وشاهد؛ فأعضاؤه تشهد عليه بما عملِه.
ويقال: هو بصِيرة وحُجّةً على نفسه في إنكار البعث.
ويقال: إنه يعلم أَنه كان جاحداً كافراً، ولو أَتى بكلِّ حجةٍ فلن تُسْمع منه ولن تنفعه.
قوله جلّ ذكره: {لاَ تحرك به لِسَانَكَ لِتَعَجَلَ به إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وقُرْءَانَهُ فَإِذَا قرآناهُ فَاتَّبِع قُرْءَانَهُ}.
لا تستعجِلْ في تَلَقُّفِ القرآن على جبريل، فإنَّ عينا جَمْعَه في قلبك وحِفْظَه، وكذلك علينا تيسيرُ قرءاته على لسانك، فإذا قرآناه أي: جمعناه في قلبك وحفظك فاتبع بإقرائك جَمْعَه.
{ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}.
نُبيِّنُ لك ما فيه من أحكام الحلال والحرام وغيرها. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعجل في التلقفِ مخافةَ النسيان، فنُهِيَ عن ذلك، وضمن اللَّهُ له التيسير والتسهيل.
قوله جلّ ذكره: {كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الأَخِرَةَ}.
أي: إنما يحملهم على التكذيب للقيامة والنشر أنهم يحبون العاجلة في الدنيا، أي: يحبون البقاء في الدنيا.
{وَتَذَرُونَ الأَخِرَةَ}: أي: تتركون العملَ للآخرة. ويقال: تكفرون بها.
قوله جلّ ذكره: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبها نَاظِرةٌ}.
{نَّاضِرَةٌ}: أي مشرقة حسنة، وهي مشرقة لأنها إلى ربها {ناظرة} أي رائية لله.
والنظر المقرون ب (إلى) مضافاً إلى الوجه لا يكون إلاَّ الرؤية، فالله تعالى يخلق الرؤية في وجوههم في الجنة على قَلْبِ العادة، فالوجوه ناظرة إلى الله تعالى.
ويقال: العين من جملة الوجه فاسم الوجه يتناوله.
ويقال: الوجهُ لا ينظر ولكنَّ العينَ في الوجهِ هي التي تنظر؛ كما أنَّ النهرَ لا يجري ولكنَّ الماءَ في النهر هو الذي يجري، قال تعالى: {جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [البقرة: 25].
ويقال: في قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ} دليل على أنهم بصفة الصحو، ولا تتداخلهم حيرة ولا دَهَش؛ فالنضرة من أمارات البسط لأن البقاء في حال اللقاء أتمُّ من اللقاء.
والرؤية عند أهل التحقيق تقتضي بقاء الرائي، وعندهم استهلاكُ العبدِ في وجود الحقِّ أتمُّ؛ فالذين أشاروا إلى الوجود رأوا الوجود أعلى من الرؤية.
قوله جلّ ذكره: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بها فَاقِرَةٌ}.
{بَاسِرَةٌ}: أي كالحةٌ عابسة. {فَاقِرَةٌ} أي: داهية وهي بقاؤهم في النار عَلَى التأييد. تظن أن يخلق في وجوههم النظر.
ويحتمل أن يكون معنى {تَظُنُّ}: أي يخلق ظنَّا في قلوبهم يظهر أَثَرُه على وجوههم.
{كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقَي وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ}.
أي ليس الأمر على ما يظنون؛ بل إِذا بلغت نفوسُهم التراقيَ، {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ}. أي يقول مَنْ حَولَه: هل أحدٌ يَرْقِيه؟ هل طبيبٌ يداويه؟ هل دواءٌ يشفيه؟
ويقال: مَنْ حَوْله من الملائكة يقولون: مَنْ الذي يَرْقى برُوحه؛ أملائكةُ الرحمة أو ملائكة العذاب؟.
{وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ}: وعلم الميت أنه الموت!.
{وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ}: ساقا الميت. فتقترِنُ شِدَّةُ آخرِ الدنيا بشدَّة أوَّلِ الآخرة.
{إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} أي الملائكةُ يسوقون روحَه إلى الله حيث يأمرهم بأن يحملوها إليه: إِمّا إلى عليين- ثم لها تفاوت درجَات، وإِمّا إلى سجِّين- ولها تفاوت دَرَكات.
ويقال: الناسُ يُكَفًِّنون بَدنَ الميت ويغسلونه، ويُصَلُّون عليه.. والحقُّ سبحانه يُلْبِسُ روحَه ما تستحق من الحُلَلِ، ويغسله بماء الرحمة، ويصلي عليه وملائكتُه.
قوله جلّ ذكره: {فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى}.
يعني: الكافر ما صدٌّق اللَّهَ ولا صلَّى له، ولكن كذَّب وتولَّى عن الإيمان. وتدل الآيةُ على أنَّ الكفارَ مُخَاطَبون بتفصيل الشرائع.
{ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى}.
أي: يتبختر ويختال.
{أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى}.
العَربُ إذا دَعَتْ على أحدٍ بالمكروه قالوا: {أَوْلَى لَكَ} وهنا أتبع اللفظَ اللفظَ على سبيل المبالغة.
ويقال: معناه الويلُ لَكَ يومَ تَحيا. والويلُ لكَ يوم تَموت، والويلُ لكَ يومَ تُبْعَث، والويلُ لكَ يومَ تدخل النار.
{أَيحسب الإنسان أَن يُتْرَكَ سُدًى}.
مُهمَلاً لا يُكلَّفُ!؟. ليس كذلك.
{أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِىٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى}.
{مِّن مَّنِىٍّ يُمْنَى} أي تُلْقى في الرَّحم {ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً} أَي: دماً عبيطاً، فسوَّى أَعضاءَه في بطن أُمه، ورَكَّبَ أجزاءَه على ماهو عليه في الخِلْقَة، وجعل منه الزوجين: إن شاء خَلَقَ الذَّكَرَ، وإن شاء خَلَقَ الأنثى، وإن شاء كليهما.
{أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)}
أَليس الذي قدر على هذا كلِّه بقادر على إحياء الموتى؟ فهو استفهام في معنى التقرير. اهـ.

.من فوائد الجصاص في السورة الكريمة:

قال رحمه الله:
وَمِنْ سُورَةِ الْقِيَامَةِ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قال اللَّهُ تعالى: {بَلْ الإنسان على نفسه بصِيرة}؛ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قال: (شَاهِدٌ على نفسه)، وَقِيلَ: (مَعْنَاهُ بَلْ الإنسان على نفسه مِنْ نَفْسِهِ بصِيرة جَوَارِحُهُ شَاهِدَةٌ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).
قوله تعالى: {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ}، قال ابْنُ عَبَّاسٍ: (لَوْ اعْتَذَرَ وَقَبِلَ شَهَادَةَ نَفْسِهِ عَلَيْهِ أَوْلَى مِنْ اعْتِذَارِهِ).
قال أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا احْتَمَلَ اللَّفْظُ هَذِهِ الْمَعَانِيَ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَيْهَا؛ إذْ لَا تَنَافِيَ فِي هَذَا، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ قولهُ مَقْبُولٌ على نفسه؛ إذْ جَعَلَهُ اللَّهُ حُجَّةً على نفسه وَشَاهِدًا عَلَيْهَا، وَلَمَّا عَبَّرَ عَنْ كَوْنِهِ شَاهِدًا على نفسه بِأَنَّهُ على نفسه بصِيرة دَلَّ ذَلِكَ عَلَى تَأْكِيدِ أَمْرِ شَهَادَتِهِ على نفسه وَثُبُوتِهَا، فَيُوجِبُ ذَلِكَ جَوَازَ عُقُودِهِ وإقرارهُ وَجَمِيعَ مَا اعْتَرَفَ بِلُزُومِ نَفْسِهِ.
آخِرُ سُورَةِ الْقِيَامَةِ. اهـ.

.من فوائد ابن العربي في السورة الكريمة:

قال رحمه الله:
سورة القيامة فِيهَا أَرْبَع آيَات:
الْآيَةُ الْأُولَى قوله تعالى: {بَلْ الإنسان على نفسه بصِيرة وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ:
المسألة الْأُولَى:
فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى قَبُولِ إقرار الْمَرْءِ على نفسه؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ مِنْهُ عَلَيْهَا قال اللَّهُ سبحانهُ: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
وَلَا خِلَافَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ إخْبَارٌ عَلَى وَجْهٍ تَنْتَفِي التُّهْمَةُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَ لَا يَكْذِبُ على نفسه وَقَدْ قال اللَّهُ سبحانهُ فِي كِتَابه الْكَرِيمِ: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ به وَلَتَنْصُرُنَّهُ قال أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إصْرِي قالوا أَقْرَرْنَا قال فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ} وَقال تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبهمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا}.
وَهُوَ فِي الْآثَارِ كَثِيرٌ؛ قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا؛ فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا».
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:
لَا يَصِحُّ إقرار إلَّا مِنْ مُكَلَّفٍ لَكِنْ بِشَرْطِ أَلَّا يَكُونَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ يُسْقِطُ قولهُ إذَا كَانَ لِحَقِّ نَفْسِهِ، فَإِنْ كَانَ لِحَقِّ غَيْرِهِ كَالْمَرِيضِ كَانَ مِنْهُ سَاقِطٌ وَمِنْهُ جَائِزٌ، وَبَيَانُهُ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ.
وَلِلْعَبْدِ حَالَتَانِ فِي الإقرار إحْدَاهُمَا فِي ابْتِدَائِهِ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُتَقدّم.
وَالثَّانِيَةُ فِي انْتِهَائِهِ، وَذَلِكَ مِثْلُ إبهامِ الإقرار وَلَهُ صُوَرٌ كَثِيرَةٌ.
وَأُمَّهَاتُهَا سِتٌّ: الصُّورَةُ الْأُولَى أَنْ يَقول لَهُ: عِنْدِي شَيْءٌ؛ قال الشَّافِعِيُّ: لَوْ فَسَّرَهُ بِتَمْرَةٍ أَوْ كِسْرَةٍ قُبِلَ مِنْهُ.
وَاَلَّذِي تَقْتَضِيهِ أُصُولُنَا أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ إلَّا فِيمَا لَهُ قَدْرٌ، فَإِذَا فَسَّرَهُ به قُبِلَ مِنْهُ، وَحَلَفَ عَلَيْهِ.
الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ أَنْ يُفَسِّرَهَا بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ، وَمَا لَا يَكُونُ مَالًا فِي الشَّرِيعَةِ، لَمْ يُقْبَلْ بِاتِّفَاقٍ، وَلَوْ سَاعَدَهُ عَلَيْهِ الْمُقَرُّ لَهُ.
الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ أَنْ يُفَسِّرَهُ بِمُخْتَلَفٍ فِيهِ، مِثْلُ جِلْدِ الْمَيْتَةِ، أَوْ سِرْجِينٍ، أَوْ كَلْبٍ، فَإِنَّ الْحَاكِمَ يَحْكُمُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ بِمَا يَرَاهُ مِنْ رَدٍّ وَإِمْضَاءٍ، فَإِنْ رَدَّهُ لَمْ يَحْكُمْ عَلَيْهِ حَاكِمٌ آخَرُ غَيْرُهُ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ قَدْ نَفَذَ بِإِبْطَالِهِ.
وَقال بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: يَلْزَمُ الْخَمْرُ وَالْخِنْزِيرُ، وَهُوَ قول بَاطِلٌ.
وَقال أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا قال لَهُ: عَلَيَّ شَيْءٌ لَمْ يُقْبَلْ تَفْسِيرُهُ إلَّا بِمَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ بِنَفْسِهِ إلَّا هُمَا.
وَهَذَا ضَعِيفٌ، فَإِنَّ غَيْرَهُمَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ؛ إذْ وَجَبَ ذَلِكَ إجْمَاعًا.
الصُّورَةُ الرَّابِعَةُ إذَا قال لَهُ: (عِنْدِي مَالٌ) قُبِلَ تَفْسِيرُهُ بِمَا يَكُونُ مَالًا فِي الْعَادَةِ، كَالدِّرْهَمِ وَالدِّرْهَمَيْنِ، مَا لَمْ يَجِئْ مِنْ قَرِينَةِ الْحَالِ مَا يَحْكُمُ عَلَيْهِ بِأَكْثَرَ مِنْهُ.
الصُّورَةُ الْخَامِسَةُ أَنْ يَقول لَهُ: عِنْدِي مَالٌ كَثِيرٌ أَوْ عَظِيمٌ.
فَقال الشَّافِعِيُّ: يُقْبَلُ فِي الْحَبَّةِ.
وَقال أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُقْبَلُ إلَّا فِي نِصَابِ الزَّكَاةِ.
وَقال عُلَمَاؤُنَا فِي ذَلِكَ أَقْوَالًا مُخْتَلِفَةً، مِنْهَا نِصَابُ السَّرِقَةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالدِّيَةِ.
وَأَقَلُّهُ عِنْدِي نِصَابُ السَّرِقَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُبَانُ عُضْوُ الْمُسْلِمِ إلَّا فِي عَظِيمٍ.
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَبه قال أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ.
وَمَنْ تَعَجَّبَ فَيَتَعَجَّبُ لِقول اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ: إنَّهُ لَا يُقْبَلُ فِي أَقَلَّ مِنْ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ دِرْهَمًا، وَقِيلَ لَهُ: وَمِنْ أَيْنَ تَقول ذَلِكَ؟ قال: لِأَنَّ اللَّهَ تعالى قال: {لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ}.
وَغَزَوَاتُهُ وَسَرَايَاهُ كَانَتْ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَ حُنَيْنًا مِنْهَا، فَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يَقول: يُقْبَلُ فِي وَاحِدٍ وَسَبْعِينَ، وَقَدْ قال اللَّهُ تعالى: {اُذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} وَقال: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ} وَقال: {وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا}.
الصُّورَةُ السَّادِسَةُ إذَا قال لَهُ: عَلَى عَشْرَةٍ أَوْ مِائَةٍ أَوْ أَلْفٍ، فَإِنَّهُ يُفَسِّرُهَا بِمَا شَاءَ وَيُقْبَلُ مِنْهُ، فَإِنْ قال: أَلْفُ دِرْهَمٍ، أَوْ مِائَةُ عَبْدٍ، أَوْ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا فَإِنَّهُ تَفْسِيرُ مُبهمٍ، وَيُقْبَلُ مِنْهُ، وَبه قال الشَّافِعِيُّ.
وَقال أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ عطف عَلَى الْعَدَدِ الْمُبهمِ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا كَانَ تَفْسِيرًا لِقولهِ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا؛ لِأَنَّ الدِّرْهَمَ تَفْسِيرٌ لِلْخَمْسِينَ، وَالْخَمْسِينَ تَفْسِيرٌ لِلْمِائَةِ.
وَقال ابْنُ خَيْرَانَ وَالْإِصْطَخْرِيُّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: إنَّ الدِّرْهَمَ لَا يَكُونُ تَفْسِيرًا فِي الْمِائَةِ وَالْخَمْسِينَ إلَّا لِلْخَمْسِينَ خَاصَّةً، وَيُفَسِّرُ هُوَ الْمِائَةَ بِمَا شَاءَ.
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ تَحْقِيقَ ذَلِكَ، وَيَتَرَكَّبُ عَلَى هَذِهِ الصُّوَرِ مَا لَا يُحْصَى كَثْرَةً، وَهَذِهِ أُصُولُهَا.
المسألة الثَّالِثَةُ:
قولهُ: {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ}: مَعْنَاهُ لَوْ اعْتَذَرَ بَعْدَ الإقرار لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ رَجَعَ بَعْدَ مَا أَقَرَّ فِي الْحُدُودِ الَّتِي هِيَ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ؛ فَقال أَكْثَرُهُمْ مِنْهُمْ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: يُقْبَلُ رُجُوعُهُ بَعْدَ الإقرار.
وَقال به مَالِكٌ فِي أَحَدِ قوليْهِ.
وَقال فِي الْقول الْآخَرِ: لَا يُقْبَلُ إلَّا أَنْ يَذْكُرَ لِرُجُوعِهِ وَجْهًا صَحِيحًا وَالصَّحِيحُ جَوَازُ الرُّجُوعِ مُطْلَقًا؛ لِمَا رَوَى الْأَئِمَّةُ، مِنْهُمْ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَدَّ الْمُقِرَّ بِالزِّنَا مِرَارًا أَرْبَعًا، كُلَّ مَرَّةٍ يُعْرِضُ عَنْهُ.
وَلَمَّا شَهِدَ على نفسه أَرْبَعَ مَرَّاتٍ دَعَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَقال: «أَبِك جُنُونٌ؟» قال: لَا.
قال: «أَحْصَنْت؟» قال: نَعَمْ.
وَفِي حديث الْبُخَارِيِّ: «لَعَلَّك قَبَّلْت أَوْ غَمَزْت أَوْ نَظَرْت».
وَفِي النَّسَائِيّ، وَأَبِي دَاوُد: حَتَّى قال لَهُ فِي الْخَامِسَةِ: «أَنِكْتَهَا؟» قال: نَعَمْ.
قال: «حَتَّى غَابَ ذَلِكَ مِنْك فِي ذَلِكَ مِنْهَا؟» قال: نَعَمْ.
قال: «كَمَا يَغِيبُ الْمِرْوَدُ فِي الْمُكْحُلَةِ وَالرِّشَاءُ فِي الْبِئْرِ؟» قال: نَعَمْ.
ثُمَّ قال: «هَلْ تَدْرِي مَا الزِّنَا؟» قال: أَتَيْت مِنْهَا حَرَامًا مِثْلَ مَا يَأْتِي الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِهِ حَلَالًا. قال: «فَمَا تُرِيدُ مِنِّي بهذَا الْقول؟» قال: أُرِيدُ أَنْ تُطَهِّرَنِي؟ قال: فَأَمَرَ به فَرُجِمَ.
قال التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُد: «فَلَمَّا وَجَدَ مَسَّ الْحِجَارَةِ فَرَّ يَشْتَدُّ فَضَرَبه رَجُلٌ بِلَحْيِ جَمَلٍ، وَضَرَبه النَّاسُ حَتَّى مَاتَ، فَقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ» قال أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ: تَثَبَّتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَمَّا لِتَرْكِ حَدٍّ فَلَا، وَهَذَا كُلُّهُ طَرِيقٌ لِلرُّجُوعِ، وَتَصْرِيحٌ بِقَبُولِهِ.
وَفِي قولهِ: لَعَلَّك غَمَزْت، إشَارَةٌ إلَى قول مَالِكٍ: إنَّهُ يُقْبَلُ رُجُوعُهُ إذَا ذَكَرَ فِيهَا وَجْهًا.
المسألة الرَّابِعَةُ:
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قال: إنَّ مَعْنَى: {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} أَيْ سُتُورَهُ، بِلُغَةِ أَهْلِ الْيَمَنِ، وَاحِدُهَا مِعْذَارٌ، وَقال ثَعْلَبٌ: وَاحِدُهَا مَعْذِرَةٌ.
الْمَعْنَى أَنَّهُ إذَا اعْتَذَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَنْكَرَ الشِّرْكَ، لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ، وَيُخْتَمُ عَلَى فَمِهِ، فَتَشْهَدُ عَلَيْهِ جَوَارِحُهُ، وَيُقال لَهُ: كَفَى بِنَفْسِك الْيَوْمَ عَلَيْك حَسِيبًا.
المسألة الْخَامِسَةُ:
وَهَذَا فِي الْحُرِّ الْمَالِكِ لِأَمْرِ نَفْسِهِ.
وَأَمَّا الْعَبْدُ فَإِنَّ إقرارهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ قِسْمَيْنِ: إمَّا أَنْ يُقِرَّ عَلَى بَدَنِهِ، أَوْ عَلَى مَا فِي يَدِهِ وَذِمَّتِهِ؛ فَإِنْ أَقَرَّ عَلَى بَدَنِهِ فِيمَا فِيهِ عُقُوبَةٌ مِنْ الْقَتْلِ فَمَا دُونَهُ نَفَذَ ذَلِكَ عَلَيْهِ.
وَقال مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: لَا يُقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُ، لِأَنَّ بَدَنَهُ مُسْتَرَقٌّ بِحَقِّ السَّيِّدِ.
وَفِي إقرارهِ إتْلَافُ حُقُوقِ السَّيِّدِ فِي بَدَنِهِ، وَدَلِيلُنَا قولهُ عليه السلام: «مَنْ أَصَابَ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسَتْرِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ عَلَيْهِ الْحَدَّ».
الْمَعْنَى أَنَّ مَحِلَّ الْعُقُوبَةِ أَصْلُ الْخِلْقَةِ وَهِيَ الدُّمْيَةُ فِي الْآدَمِيَّةِ، وَلَا حَقَّ لِلسَّيِّدِ فِيهَا، وَإِنَّمَا حَقُّهُ فِي الْوَصْفِ وَالتَّبَعِ، وَهِيَ الْمَالِيَّةُ الطَّارِئَةُ عَلَيْهِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِمَالٍ لَمْ يُقْبَلْ، حَتَّى قال أَبُو حَنِيفَةَ: إنَّهُ لَوْ قال: سَرَقْت هَذِهِ السِّلْعَةَ إنَّهُ تُقْطَعُ يَدُهُ وَيَأْخُذُهَا الْمُقَرُّ لَهُ.
وَقال عُلَمَاؤُنَا: السِّلْعَةُ لِلسَّيِّدِ، وَيُتْبَعُ الْعَبْدُ بِقِيمَتِهَا إذَا عَتَقَ؛ لِأَنَّ مَالَ الْعَبْدِ لِلسَّيِّدِ إجْمَاعًا، فَلَا يُقْبَلُ قولهُ فِيهِ، وَلَا إقرارهُ عَلَيْهِ، لاسيما وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقول: إنَّ الْعَبْدَ لَا مِلْكَ لَهُ وَنَحْنُ وَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُ يَصِحُّ تَمَلُّكُهُ، وَلَكِنَّ جَمِيعَ مَا فِي يَدِهِ لِسَيِّدِهِ بِإِجْمَاعٍ عَلَى الْقوليْنِ.
المسألة السَّادِسَةُ:
وَقَدْ قِيلَ: إنَّ مَعْنَى قولهِ: {بَلْ الإنسان على نفسه بصِيرة}؛ أَيْ عَلَيْهِ مَنْ يُبْصِرُ أَعْمَالَهُ، وَيُحْصِيهَا، وَهُمْ الْكِرَامُ الْكَاتِبُونَ؛ وَهَذِهِ كُلُّهَا مَقَاصِدُ مُحْتَمِلَةٌ لِلَّفْظِ، أَقْوَاهَا مَا تَقدّم ذِكْرُنَا لَهُ.
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قوله تعالى: {لَا تحرك به لِسَانَك لِتَعْجَلَ به} فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
المسألة الْأُولَى:
ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قوله: {لَا تحرك به لِسَانَك لِتَعْجَلَ به} قال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعَالِجُ مِنْ التَّنْزِيلِ شِدَّةً، وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ به شَفَتَيْهِ، فَقال ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَنَا أُحَرِّكُهُمَا كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُحَرِّكُهُمَا.
وَقال سَعِيدٌ: أَنَا أُحَرِّكُهُمَا كَمَا رَأَيْت ابْنَ عَبَّاسٍ يُحَرِّكُهُمَا، فَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل: {لَا تحرك به لِسَانَك لِتَعْجَلَ به إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وقرآنه} قال: جَمْعُهُ لَك فِي صَدْرِك وَتَقْرَؤُهُ.
{فَإِذَا قرآناهُ فَاتَّبِعْ قرآنه}.
قال: فَاسْتَمِعْ لَهُ وَأَنْصِتْ.
{ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}: ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا أَنْ نَقرأهُ.
فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ذَلِكَ إذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ اسْتَمَعَ، فَإِذَا انْطَلَقَ جِبْرِيلُ قرأهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَمَا أَقرأهُ.
المسألة الثَّانِيَةُ:
هَذَا يُعَضِّدُ مَا تَقدّم: فِي سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ مِنْ قوله: {وَرَتِّلْ القرآن تَرْتِيلًا} حَسْبَمَا تَقدّم بَيَانُهُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ.
وَهَذَا الْمَعْنَى صَحِيحٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُتَلَقِّنَ مِنْ حُكْمِهِ الْأَوْكَدِ أَنْ يُصْغِيَ إلَى الْمُلَقِّنِ بِقَلْبه، وَلَا يَسْتَعِينُ بِلِسَانِهِ، فَيَشْتَرِك الْفَهْمُ بَيْنَ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، فَيَذْهَبُ رُوحُ التَّحْصِيلِ بَيْنَهُمَا، وَيَخْزِلُ اللِّسَانَ بِتَجَرُّدِ الْقَلْبِ لِلْفَهْمِ؛ فَيَتَيَسَّرُ التَّحْصِيلُ؛ وَتَحْرِيكُ اللِّسَانِ يُجَرِّدُ الْقَلْبَ عَنْ الْفَهْمِ، فَيَتَعَسَّرُ التَّحْصِيلُ بِعَادَةِ اللَّهِ الَّتِي يَسَّرَهَا؛ وَذَلِكَ مَعْلُومٌ عَادَةً فَيَتَحَقَّقُ لِذِي مُشَاهَدَةٍ.
قال الْإِمَامُ: كُنْت أَحْضُرُ عِنْدَ الْحَاسِبِ بِتِلْكَ الدِّيَارِ الْمُكَرَّمَةِ، وَهُوَ يَجْعَلُ الْأَعْدَادَ عَلَى الْمُتَعَلِّمِينَ الْحَاسِبِينَ، وَأَفْوَاهُهُمْ مَمْلُوءَةٌ مِنْ الْمَاءِ، حَتَّى إذَا انتهى إلْقَاؤُهُ، وَقال: مَا مَعَكُمْ رَمَى كُلُّ وَاحِدٍ بِمَا فِي فَمِهِ، وَقال مَا مَعَهُ لِيُعَوِّدَهُمْ خَزْلَ اللِّسَانِ عَنْ تَحْصِيلِ الْمَفْهُومِ عَنْ الْمَسْمُوعِ.
وَلِلْقول فِي التَّعَلُّمِ سِيرَةٌ بَدِيعَةٌ؛ وَهِيَ أَنَّ الصَّغِيرَ مِنْهُمْ إذَا عَقَلَ بَعَثُوهُ إلَى الْمَكْتَبِ، فَإِذَا عَبَرَ الْمَكْتَبَ أَخَذَهُ بِتَعْلِيمِ الْخَطِّ وَالْحِسَابِ وَالْعَرَبِيَّةِ، فَإِذَا حَذَقَهُ كُلَّهُ أَوْ حَذَقَ مِنْهُ مَا قُدِّرَ لَهُ خَرَجَ إلَى الْمُقرئ فَلَقَّنَهُ كِتَابَ اللَّهِ، فَحَفِظَ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ رُبْعَ حِزْبٍ، أَوْ نِصْفَهُ، أَوْ حِزْبًا، حَتَّى إذَا حَفِظَ القرآن خَرَجَ إلَى مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ تَعْلِيمِ الْعِلْمِ أَوْ تَرْكِهِ.
وَمِنْهُمْ وَهُمْ الْأَكْثَرُ مَنْ يُؤَخِّرُ حِفْظَ القرآن، وَيَتَعَلَّمُ الْفِقْهَ وَالْحديث، وَمَا شَاءَ اللَّهُ فَرُبَّمَا كَانَ إمَامًا، وَهُوَ لَا يَحْفَظُهُ، وَمَا رَأَيْت بِعَيْنِي إمَامًا يَحْفَظُ القرآن، وَلَا رَأَيْت فَقِيهًا يَحْفَظُهُ إلَّا اثْنَيْنِ، ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ الْمَقْصُودَ حُدُودُهُ لَا حُرُوفُهُ؛ وَعُلِّقَتْ الْقُلُوبُ الْيَوْمَ بِالْحُرُوفِ، وَضَيَّعُوا الْحُدُودَ، خِلَافًا لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَكِنَّهُ إنْفَاذٌ لِقَدَرِ اللَّهِ، وَتَحْقِيقٌ لِوَعْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتَبْيِينٌ لِنُبُوَّتِهِ، وَعَضُدٌ لِمُعْجِزَتِهِ.
المسألة الثَّالِثَةُ:
الْبَارِي سبحانهُ يَجْمَعُ القرآن فِي قَلْبِ الرَّسُولِ تَيْسِيرًا لِلتَّبْلِيغِ، وَيَجْمَعُهُ فِي قَلْبِ غَيْرِهِ؛ تَيْسِيرًا لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ؛ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ شِفَاءً لِمَا يَعْرِضُ فِي الصُّدُورِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَمًى فِي الْأَبْصَارِ وَالْبَصَائِرِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعِلْمِ به رَيْنٌ، فَيَبْقَى تَالِيًا، وَلَا يَجْعَلُ لَهُ مِنْ الْمَعْرِفَةِ ثَانِيًا، وَهُوَ أَخَفُّهُ حَالًا وَأَسْلَمُهُ مَآلًا، وَقَدْ حَقَّقَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ وَعْدَهُ بِقولهِ: {سَنُقرئكَ فَلَا تَنْسَى}؛ وَهُوَ خَبَرٌ، وَلَيْسَ بِأَمْرٍ مَعْنَوِيٍّ لِثُبُوتِ الْيَاءِ فِي الْخَطِّ إجْمَاعًا، وَلَيْسَ يَنْبَغِي بَعْدَ هَذَا تَأْوِيلٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ.
وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُعَارِضُهُ جِبْرِيلُ القرآن مَرَّةً فِي كُلِّ شَهْرِ رَمَضَانَ، حَتَّى كَانَ الْعَامُ الَّذِي قَبَضَهُ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآخَرِ عَارَضَهُ مَرَّتَيْنِ؛ فَفَطِنَ لِتَأْكِيدِ الْحِفْظِ وَالْجَمْعِ عِنْدَهُ، وَقال: «مَا أَرَاهُ إلَّا قَدْ حَضَرَ أَجَلِي» إذْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ بَعْثِهِ إلَى الْخَلْقِ تَبْلِيغُ الْأَحْكَامِ وَتَمْهِيدُ الشَّرْعِ، ثُمَّ يَسْتَأْثِرُ اللَّهُ به عَلَى الْخَلْقِ، وَيَظْهَرُهُ بِرَفْعِهِ إلَيْهِ عَنْهُمْ، وَيَنْفُذُ بَعْدَ ذَلِكَ حُكْمُهُ فِيهِمْ.
المسألة الرَّابِعَةُ:
انتهى النَّظَرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْمٍ مِنْ الرُّفَعَاءِ مِنْهُمْ قَتَادَةُ إلَى أَنْ يَقولوا فِي قوله: {ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} أَيْ تَفْصِيلَ أَحْكَامِهِ، وَتَمْيِيزَ حَلَالِهِ مِنْ حَرَامِهِ، حَتَّى قال حِينَ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ: إنَّ مِنْهُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، وَهَذَا وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ لَهُ مَسَاقُ الْآيَةِ فَلَا يَنْفِيهِ عُمُومُهَا، وَنَحْنُ لَا نَرَى تَخْصِيصَ الْعُمُومِ بِالسَّبَبِ وَلَا بِالْأَوْلَى مِنْ الْآيَةِ وَالْحديث، وَلَا بِالْمَسَاقِ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ.
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ: قوله تعالى: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى} فِيهَا مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ:
وَهِيَ مَا تَقدّم فِي نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَكُونُ الْوَلَدُ مِنْ أَحْوَالِ التَّخْلِيقِ وَلَدًا: مِنْ النُّطْفَةِ وَالْعَلَقَةِ وَالْمُضْغَةِ؛ وَهَذِهِ الْآيَةُ بِظَاهِرِهَا تَقْتَضِي أَنَّ الْمَرْتَبَةَ الثَّالِثَةَ بَعْدَ الْعَلَقَةِ وَتَكُونُ خَلْقًا مُسَوًّى، فَتَكُونُ به الْمَرْأَةُ أُمَّ وَلَدٍ، وَيَكُونُ الْمَوْضُوعُ سِقْطًا، وَقَدْ حَقَّقْنَا ذَلِكَ وَاخْتِلَافَ النَّاسِ فِيهِ كَمَا سَبَقَ، وَهَذِهِ التَّسْوِيَةُ أَوَّلُهَا ابْتِدَاءُ الْخِلْقَةِ، وَآخِرُهَا اسْتِكْمَالُ الْقُوَّةِ، وَالْكُلُّ مُرَادٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قوله تعالى: {فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى}: وَقَدْ احْتَجَّ بهذَا مَنْ رَأَى إسْقَاطَ الْخُنْثَى، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي سُورَةِ الشُّورَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَقَرِينَتَهَا إنَّمَا خَرَجَتَا مَخْرَجَ الْغَالِبِ، حَسْبَمَا تَقدّم هُنَا لَك، فَلْيَجْتَزِئْ به اللَّبِيبُ فَإِنَّهُ وَفَّى بِالْمَقْصُودِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى. اهـ.